تأملات في سبيل فهم سلوك الفرد في الحياة السياسية

 

المنبعثين من أرض الفكر

 

تحليل مقولة جوزيف شومبيتر

يُعدّ الفيلسوف والاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر واحدًا من أبرز المفكرين في مجال الاقتصاد والسياسة. تُعدّ اقتباساته مصادر غنية للتأمل والنقاش، ومن بين هذه الاقتباسات يأتي قوله الشهير: “المواطن العادي ينزل إلى مستوى أدنى من الأداء العقلي بمجرد دخوله المجال السياسي. إنه يُجادل ويُحلّل بطريقة يُمكنه أن يتعرّف بسهولة على أنها طفولية في نطاق اهتماماته الحقيقية. إنّه يصبح بدائيًا مرة أخرى.”

 

فتح النافذة العميقة

تفتح هذه العبارة نافذة عميقة لفهم سلوك الأفراد في الحياة السياسية مقارنة بحياتهم الخاصة والمهنية. عندما نتأمل هذا القول، يمكننا أن نلاحظ عدة نقاط مهمة تبرز في تفسيره.

 

التحول في مستوى الأداء العقلي

أولًا، يُشير شومبيتر إلى تحول في مستوى الأداء العقلي للمواطن العادي عند الدخول في المجال السياسي. في الحياة اليومية، يمتلك الفرد مجموعة من الاهتمامات والمعايير التي يتمسك بها ويحلل من خلالها الأمور بعقلانية وموضوعية. ولكن، بمجرد أن يتحول النقاش إلى ساحة السياسة، يبدو أن هذا الفرد ينزل إلى مستوى أقل من الأداء العقلي، حيث تُهيمن العواطف والميول الفردية على العقلانية والتحليل المنطقي.

 

السلوكيات البدائية والطفولية

ثانيًا، يجادل شومبيتر بأن المواطن، في النقاشات السياسية، يُظهر سلوكيات بدائية وطفولية تُبعده عن الموضوعية. هذا يعني أن الجدال والتحليل في السياسة غالبًا ما يكونان غير ناضجين ومفتقرين إلى العمق، ويُظهر فيهما الفرد مواقف متعصبة وغير متفتحة على الآراء الأخرى. في السياسة، يمكن أن يُصبح الفرد عصبيًا وسريع الغضب وغير قادر على الاستماع والتفهم للآراء المختلفة.

 

الديناميكية الجماعية

ثالثًا، يمكن تفسير هذا التحول بـ”الديناميكية الجماعية” أو كما يُعرف بـ”العقلية الجماعية”. في المجال السياسي، يكون هناك تأثير قوي للجماعات والأحزاب والتيارات السياسية التي تدفع الفرد أحيانًا إلى الابتعاد عن تفكيره المستقل واتباع مسارات التفكير الجماعي بشكل غير نقدي. هذه الديناميكية تجعل الفرد يتبنّى مواقف وأفكارًا قد لا تتفق بالضرورة مع قناعاته الذاتية ولكنه يتبعها بسبب ضغط المجموعة أو الحزب.

 

العودة إلى البدائية

أخيرًا، يتضح من خلال كلام شومبيتر أن الفرد في الحياة السياسية يُصبح بدائيًا مرة أخرى، بمعنى أنه يتخلى عن تعقيدات التفكير المنطقي والعقلاني ويعود إلى السلوكيات والتصرفات العاطفية والغرائزية. هذه العودة إلى البدائية يمكن أن تكون ناتجة عن تعقيدات الساحة السياسية وتأثيراتها الكبيرة على الفرد، مما يجعله يبحث عن طرق بسيطة وسلمية للانتماء والدفاع عن آرائه.

في الختام، يعكس قول جوزيف شومبيتر تحديًا كبيرًا يواجه الأفراد في الحفاظ على مستوى أداء عقلي وعقلاني في النقاشات السياسية. يُعتبر هذا التحدي جزءًا من الطبيعة الإنسانية ولكنه يدعونا أيضًا إلى فهم أهمية التحليل النقدي والعقلاني في السياسة وعدم الانجراف وراء العواطف والتحيزات الجماعية.

شارك المقال مع أصدقائك

Share on facebook
Facebook
Share on twitter
Twitter
Share on whatsapp
WhatsApp
Share on telegram
Telegram

Leave a Reply